أخر الاخبار

الثابتون في زمن الخذلان

 الثابتون في زمن الخذلان

    إن من سنن الله تعالى في عباده الداعين إليه أن لا تُصقل َمعادنُهم وألا تزكو نفوسهم وينالوا ما عند الله من الخير إلا بالابتلاء والتمحيص ... فبه يظهر جوهر النفوس العظيمة ويسقط زيف النفوس اللئيمة، وبه يتمايز الصادقون عن المنافقين والكاذبين، فتأتي المحن تتلوها المحن لتعجم عيدان الرجال فتخرج أشدها وأصلبها، فإن نصـ.ـرة دين الله سبحانه وتعالى لا تكون إلا على أيدي المخلصين الصابرين، الذين سمت هممهم وترفعت نفوسهم عن سفاسف الدنيا وتفاهات الأمور.


   وإن اللاهثين وراء حطام الدنيا الراكضين خلف شهواتها الدنيئة، الذين آثروا السلامة المتوهمة ينظرون إلى الابتلاءات التي تصيب المجـ.ـاهـ.ـ .. في سبيل الله على أنها عذاب وعقاب! ويحسبون أنهم نجوا بأنفسهم منها بفطنتهم! ووقع فيها المجـ.ـاهـ ..
لطيشهم، كلا والله إن العين التي ينظرون بها لعوراء لا ترى إلا سواد نواياهم ودناءة نفوسهم، وإن المجـ.ـاهـ.. بفضل الله سبـ.ـحانه وتعالى يرون هذه الابتلاءات كما بينها لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أشد بلاء؟ قال: (الأنبياء، ثم الأمثَل فالأمثل، يُبت َلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد صلابة، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، ولا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض ما له خطيئة[الدارمي].


   ولقد ابتلي الأنبياء وهم أكرم الخلق على الله بكل أنواع البلاء وأشده، فابتلوا في أجسادهم وأعراضهم وأهليهم وأموالهم؛ فما زادهم ذلك إلا ثباتا على دعوتهم وتثبيتا لمن معهم وتصبيرا لهم، وابتلي بعدهم الخلص من عباد الله أصحاب الأنبياء ومن تبعهم
بإحسان فصبروا على ما أوذوا متيقنين بموعود الله وعظيم أجره، وما زالت الابتلاءات تنزل بالطـ.ـائفة المنصـ.ـورة تنقي صفوفها وتنفي خبثها، فيتساقط المترددون ويتمكن
من لجامها الصادقون حتى أتى هذا الزمان الذي نحن فيه فظهر الفساد في البر والبحر واستمرأ الكثيرون الذل واستسلم أصحاب الهمم الضعيفة وتهيّبوا ركوب البحر اللجي فتَفرعن طـ.ـواغـ.ـيت العصر وجاؤوا بشتى أنواع الكـ.ـفـ.ـر.

   فانبرى أسد الشرى رجال الملة أبناء دولـ.ـة .. فوقفوا في وجه طـ.ـواغـ.ـيت الأرض قاطبة، وأعلنوها حربا حتى يعـ.ـبد الله وحـ.ـده فأرغموا أنوف المشـ.ـركين .. وأهل .. الأهواء، فراحوا يفكون عقد الكـ.ـفر والشـ.ـرك والضلال ويُوثِقون عرى التـ.ـوحـ.ـيد والإيمان، يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، فكان لزاما عليهم الابتلاء، فابتُلوا كما ابتُلي أسلافهم بالأنفس والأهل والمال فكانوا خير خلف لخير سلف، فثبتوا في الحـ.ـرب وصبروا في الكرب فلم يجتمع الأعداء إلا على حربهم، فوا عجبا لثباتهم وصبرهم لقد أتعبت هممهم العالية أجسادهم وضاقت جسامهم على نفوسهم العظيمة فمزقت في القـ.ـتال وعذّبت في الأسر في سبيل الله، وشدت تحت الحر والقر وعاشت بين الكر والفر وما يزالون يراغمون أعـ.ـداء الله بالسـ.ـنان واللسان، بالرغم من عظيم ما نزل
بهم من ابتلاءات لو نزلت بالجبال الراسيات لهاضتها، ولكن هيهات.

   فكيف يثني القتل عزائمهم وهو من أسمى غاياتهم، وهو ما تمناه قدوتهم ونبيّهم محمد صلى الله عليه وسلم، وناله زكريا ويحيى وغيرهم من الأنبـ.ـياء عليهم السلام، وأنّى للأسر أن يُضعف هممهم وهم يقرؤون في كتاب الله قصة نبيه يوسـ.ـف عليه السـ.ـلام وكيف حول سجنَه إلى مدرسة للتـ.ـوحيد ومكان للدعوة إلى الله، وهل سيوهنهم إيذاء ِ نسائهم وأطفالهم بالأسر والتشريد وهم يستذكرون قصة سارة -زوج نبي الله إبـ.ـراهيم عليه السلام- مع ملك مصر الظالم، وقصة ماشطة بنت فرعون وغيرها من قصص الصالحين الأول.

   فكيف لا يحسنون صبرا وكل ابتلاء يَنزله بهم كان قد نزل بخيرة سلفهم من جنس ما هو أشد منه فأحسنوا فيه صنعا. وإن من الابتلاء تكالب الأعـ.ـداء وتحالف المـ.ـرتـ.ـدين المنتسبين زورا وبهتانا إلى الإسـ.ـلام مع الكـ.ـفـ.ـار على المـ.ـجاهـ..، لكن ذلك بات أمرا مفروغا منه وغير مستغرب، ولكن الابتلاء الأشد هو خذلان أهل الإسـ.ـلام للمـ.ـجاهـ.. فهذا ما يُدمي القلب ويغص الروح، فلا هم نصروا المـ.ـجاهـ.. ولا هم خلفوهم في أهلهم وذراريهم خيرا، ولا هم كفوا ألسنتهم عنهم، لقد كان هذا الخذلان أشد أنواع الابتلاء على المـ.ـجاهـ.. قديما وحديثا، ولكنهم لما علموا أن الكل يفنى ويبقى
الواحد القهار وأن الأجر من الله وحده، وأنه سيؤتي كل ذي حق حقه، وأن كل من في السماوات والأرض ناصيته بيده سبحانه؛ اطمأنت نفوسهم وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلم يبالوا بخذلان القريب وعدوان البعيد وواصلوا طريقهم والحمد لله.


   فيا جنود التـ.ـوحـ.ـيد وحراس العـ.ـقيـ.ـدة تحت أي ابتلاء كنتم، أسرى أو مطاردين أو مقاتـ.ـلين في الميادين… لا تكلوا ولا تملوا من مراغمة أعداء الله ومصابرتهم على إظهار دين الله ونصرته بالإعداد والجـ.ـها.. سنانًا ولسانًا، فعما قريب تنجلي عنكم هذه الغمة بإذن الله تعالى كما انجلت غيرها من قبل. واعلموا أن هذا الطريق كتب الله على
سالكيه الابتلاء حتى يلقـ.ـوه سبحانه، تمييزا وتمحيصا واصطفاء فكونوا كما يحب الله أن تكونوا صابرين محسنين مسترجعين، وأكثروا من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ...
فكونوا على يقين أن العاقبة للمتقين وأن النصر للمـ.ـؤمنين، وأن رضى الله وجنّتَه
لا تُنال بالآمال بل بصالح الأعمال، فهذا وعـ.ـد الله تعالى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة: 56.7 كيلوبايت.

 المصدر: الصحيفة التي يصدرها المقـ.ـاتـ.ـلون في العراق (العدد 321).

الثابتون في زمن الخذلان


 

تعليقات



    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -