هـشِـيـمُ الـتّـراجُـعـاتِ : عـبدُ الـلهِ الـرّشـيـدُ ← • ولـئـن تـا قـتْ نُـفـوسُ الـمؤمنـيـن إلى الـنّـصْـرِ واسْـتـعْـجـلـوهُ ، فـإنّ لـلهِ في تأخـيـرهِ حِـكـماً عـظـيـمة . وقـد شـاءتْ حِـكـمَـتـهُ أنْ يَـتــقــلــبَ عِـبـادُهُ بـيـن حالـي الـعُـسْـرِ والـيُـسْـرِ ، لِـيَـعْـلـمَ سُـبْـحـانـهُ الـشاكـريـن الصّابـريـن ؛ ولـوْلا ذلـك لـما كـان للصابـريـن الصّـادقـيـن في الـفِـتـنِ والابـتِـلاءاتِ مِـيـزةٌ عـن غـيـرِهِـمْ • لا يَـحِـلّ أن يُـحَـمَّـلَ الـسَّـجـيـنُ الـمَـسـؤولـيـة الـكـامـلـة عـن أقـوالـهِ حـتـى يَـخـرُجَ مـن الأسْــرِ والـقـيـدِ ، فـيُـبِـيـن عــن أقــوالـهِ مُـخـتـاراً دون أيِّ ضـغــطٍ أو إكـراهٍ . والـسِّـجْـن قــد يُــثــمِــرُ ثـمَــراتٍ عـظـيـمَـة عـنـدما يُـوَفـق الـسّـجـيـنُ في اسـتـغـلالـهِ فـي طاعـةِ الـلهِ وعـبـادتـهِ وحـفـظِ كـتـابهِ وطـلـب الـعـلـمِ ونـشـرِ الـدّعْــوةِ ، والاسـتـفـادةِ مـن تـجـاربـهِ وتـجـارب الآخَـريـن لـيَـخْـرُجَ مـنـهُ أصْـلـبَ مِـراسـا وثـبـا تـا . وقـد يَـكـسِـرُ بـأن يـنـقـلـبَ الـمَـرْءُ عـلى عَـقـبَـيـهِ فـيَـجْـعَـلَ فِـتـنـة الـناسِ كـعـذاب الـلهِ فـيُـبـدّلُ ويُـغـيـرُ ويـتـراجـعُ ويُـخـلِـدْ إلى الأرضِ بـعـدَ أن عـرفَ الـحَـق وأبْـصَـرَهُ ويَـنـحـازَ إلى عُــدْوَةِ ( أيْ جـا نـب ) أعْــداءِ الـديـنِ . وقـدْ يُـعَـكـرُ بـأن يَـحـرِفَ الـمَــرْءَ عـنِ الـجـا دَّةِ بـحَـسـب طـبـيـعـةِ الـمـرءِ ، فـإن كـان إلى الـشـدّةِ أمْـيَــلَ انـحـرَفَ بـهِ الـقـيـدُ والـتـعْـذيـبُ إلى الـغـلـوِّ ومـن كِـيـسِ هـؤلاءِ خـرجَ الـتـكـفـيـرُ بـالـعُـمـومِ ، وإن كـانـتْ طـبـيـعـة الـسَّـجـيـنِ إلى الـلـيـنِ أمْـيَـلَ انـحَـرَفَ بهِ إلى الـتّـجَـهّـمِ والإرجاءِ والـمُـداهـنةِ • اعـلـمْ أن من خـا فَ فـي الـدّنـيـا أمِـن فـي الآخِــرَةِ ، ومَـن أمِــن فـي الـدّنـيـا خـاف فـي الآخِــرَةِ ومَـن كـان مُـتـعـلــقــاً فـي ديـنـهِ بـالـرِّجـالِ ، أسْــرَع إلـى أوْديـةِ الـضَّـلالِ ، ومَـن تـمَــسَّــك بـالـدّلـيـلِ ، هُــدِيَ إلـى ســواءِ الـسّـبـيــلِ . واعــلــمْ أنـك وُلــدْتَ وَحْــدك وتـمـوتُ وَحْـدك ، وتـبْـعَــث وَحْــدك ، وتـحـاسَـبُ وَحْـدك ، ولـن يُـحـاسَـبَ مَـعـك مَـن اتـبَـعْــتَـهُ وقـلـدْتـهُ • فـمَـنِ اسْـتـبـان لــهُ أنـهُ عـلـى بـاطـلٍ فـمِـن نِـعْــمَـةِ الـلـهِ عـلـيـهِ أن أراهُ الـبـاطـلَ بـاطـلا ، ومِـن شـكْــرِ الـلـهِ فـي هـذهِ الـنّـعْـمـةِ أن يَـرجِـعَ عـن هـذا الـباطـلِ . والـرَّاجـعُ إلى الـحَـقّ لا يُـمْـكِـنُ أن يَـرْجـعَ إلا وقـدْ رأى دَلـيلا أظـهَــرَ مـن دلـيـلـهِ في الـقـوْلِ الـذي كـان عـلـيـهِ . واتّـبـاع الـقـولِ الـذي لـمْ يُـؤيَّـدْ بـالـدّلـيـلِ مَـنْهِـيّ عـنـهُ شـرْعـاً • كـل صـاحـب بـدعـةٍ وضـلالـةٍ يَـخـلِـط الـبـاطــلَ الـذي يـأ تي بـهِ بـشـيْءٍ مـن الـحـق لِـيَـروجَ عـنـدَ الـنـاسِ وتَـقـبَـلـهُ الـنـفـوسُ الـتـي تـطـلـبُ الحَـقَّ الـذي خُـلِــط بـالـبـاطِـلِ ، فـتـأخُـذهُ بـما مَـعَـهُ مِـن بـاطِـلٍ وتـلـبـيـسٍ وقـرَيْـشُ حِـيـن اتـخَـذوا الآلهَـة الـتي يَـعْـبُـدونها مِـن دونِ الـلهِ ، ما كـان قـصْـدُهـمْ إلّا الـتـقــرّبَ إلـى الـلـهِ ، وهــذا قـصْـدٌ صَـحـيـحٌ ، ولـكـن الـتـقــرّبَ إلـى الـلــهِ لا يـكـونُ بـالـوسـائـطِ وصَـرْفِ حُـقـوقِ الـلـهِ إلـيـهـا . ورَمْيُ الـمُـشـركـيـن للأنـبـيـاءِ بـالـتـغـيـيــرِ والـتـبْـديــلِ ، يَـسْـتــنِــدُ إلـى حَــق فـي أصْـلـهِ ، وهـو حَـمْــدُ الـثـبـاتِ وفـضْـلـهُ ؛ فـالـثـبـاتُ حَـق ، والـتـغـيـيـرُ بـاطـلٌ ، ولـكـن الـثـبـاتَ الـذي هـو حَــق هـو الـثـبـاتُ عـلـى فِـطـرَةِ الـلـهِ الـتي فـطــرَ الـنـاسَ عـلـيـها ، لا عـلى مـا أحْـدَثـهُ الآبـاءُ والأجْـدادُ وغـيَّـروا بـهِ الأصْـلَ الـثـابـت • لـيْـسَ مَـعْـنـى الإنـصـافِ الـلـيـنُ مـعَ كــلّ مُـخـالــفٍ ، ومـن مَـظـاهــرِ انـعِــدامِ الإنـصـافِ تـسْـمِـيـة الـمُـجـاهِــديــن خـوارج ، ولـمْـزِهـمْ بـهِ لـمْـزاً خَـفِـيّـا ، كـأن يُـقـالَ : أمّـا الـقـوْلُ بـكـذا فـهـوَ قــوْلُ الـخـوارجِ ، وأيّ قــوْمٍ كـالـمُـجـاهِــديــن خـاضَـتْ فـي أعْــراضِـهــمُ الألـسُــنُ ؟ • الـضّلالُ بعـدَ الـهُـدى واردٌ فـي حـق أفـرادِ الأمّـةِ ، ولا يَـعْـصِـمُ مِـنهُ وَفـورُ عَـقـلٍ وحِـدّةُ ذكـاءٍ ، وسِـعَـة عِـلـمٍ ، إن لـمْ يَـعْـصِـمِ الـلـهُ الـعـبـدَ ويـأخـذ بـنـاصِـيَـتـهِ إلى الـبِــرِّ والـتّـقْــوى . وإبـراهــيـمُ إمــامُ الـحُـنـفـاءِ وأبــو الأنـبـيـاءِ قـال فـي دُعـائـهِ : ﴿ واجْـنُـبْـنِـي وبَـنِـيَّ أن نَـعْــبُــدَ الأصْـنـامَ ﴾ ؛ فـخَـشِـيَ عـلى نـفـسِـهِ الـرّجـوع إلى الـشـرْكِ . وفي الـحـديـثِ الـقُـدْسِـيِّ : (( يا عِـبـادي كـلـكـمْ ضـالّ إلا مَـنْ هـدَيْـتهُ )) • لا عِـصْــمَـة إلّا لِـنـبـيّ [ الـعِـصْـمـة هـي حِـفــظ الـلـهِ لأنـبــيـائـهِ ورُسُــلـهِ مِــن الـوُقـوعِ فـي الـذنـوب والـمَـعـاصي ] ، ونُـرَدِّدُ أن الـحَـيَّ لا تُـؤمَـنُ عـلـيْـهِ الـفِـتـنة ولامْـتِـنـاعِ الـعِـصْـمَـةِ فـي الـرِّجـالِ وَجَـبَ الـتـعَــلــقُ بـالـحـقِّ ؛ وبـذلــك يُـعْــرَفُ الـرجـالُ - الصّالحون بِـتـعَـلـقِـهـمْ - بالـحَـقّ ، ولا يُـعْـرَفُ الـحَـقّ بالـرجـالِ ؛ ولـو كــان الـرِّجـالُ أدِلــة عـلـى الـحـق مـا كــان للآيـاتِ والـنـصـوصِ فــائــدةٌ ، إذ قــدْ مَـضـى لـلأمّـةِ مـن الـرِّجـالِ الـعِـظـامِ ما يَـكْـفـي للاسْـتِـدْلالِ بـه لـوْ كـانـوا أدِلـة • ذكـرَ ابـن الـقـيِّـمِ إجْـماع الـسّـلـفِ عـلى أن اسْـمَ الـفـقِـيهِ لا يَـسْـتـحِـقـهُ أحَـدٌ بالـعِـلـمِ دون الـعَـمَـلِ • الـعـالـمُ الـذي يَـكْـتـمُ الـحَـقّ ، ويُـلـبِّـسُـهُ بالـباطـلِ ، فـهـو وإن كـان داخِـلا في مُـطـلـقِ اسْـمِ العـالـمِ ، إلّا أنـهُ لا يَـسـوغ تـسْـمِـيَـتـهُ بـالـعـالـمِ إلا مُـقـيَّـداً فـيُـقـالُ : عـالـمُ سـوءٍ ، وعـالـمُ ضـلالـةٍ • الـلـهُ أنــزلَ الـكِـتـابَ لِـيُـعْــمَــلَ بـهِ فـي الـواقـعِ ويُـنـزّلَ عـلـيـهِ ، ويُـسْـتـنـارَ بـه فـيـمـا يَـحْـدُث مِـن أحْـداثٍ ، فـمـا يَـفـعَــلُ الـعـالـمُ ومـا الـحـاجَـة إلـيْـهِ ، إن لــمْ يَـصْـدَع بـحُـكـمِ الـلـهِ فـي واقِـعِـهِ ويُـبَـيِّـن مـا أمَـرَ الـلـهُ بـهِ ؟ • أحْـجَـمَ عُـلـماءُ الـسّـوءِ عـن بـيـانِ الـحَـق والـصَّـدْعِ بـهِ بـحُـجَّـةٍ يُـمْـلـيها عـلـيـهـمْ إبلـيـسُ من الـتّـرَيّـثِ والـتّـأني • يَـسْـتـدِلّ المُـلـبِّـسـون بعُـمـوماتٍ غـيْـرِ مُخـتـلـفٍ فـيـهـا ، ويَـتـحـاشـون الـكـلامَ في مَـسألـةِ الـنـزاعِ والـنـظـرِ فـيـهـا • قـال الـنـبي : (( مَـن قـالَ لأخـيهِ يا كافِـرُ فـقـدْ باءَ بها أحـدُهـما )) ؛ والمَـقـصودُ مَـن رَمَـى أخـاهُ بالـكـفـرِ عـن هـوىً أو عـلى جـهـةِ الـمُـشـا تـمَـةِ ، أمـا الـمُـجْـتـهـدُ اجْـتهـاداً شـرْعـياً فهـو مأمـورٌ بالـقـولِ بما أدّاهُ إلـيهِ اجْـتِـهـادهُ ؛ ولـذلـك لـمْ يُـنْـكِـرِ الـنـبـيّ عـلى عُـمَـرَ بـن الـخـطاب تـكـفـيـرَهُ لـحاطـب بـن أبي بَـلـتـعَـة ، وحـاطـبُ بَـدْرِيٌّ بَـراءٌ مـن الـكـفـرِ بـتـبْـرِئـةِ الـلـهِ ورَسـولـهِ لـهُ . فـمَـن اجـتـهـدَ فـي مَـسْـألـةٍ هـيَ مَـوْضِـعُ اجْـتِـهـادٍ ، وأعْـطـى الاجْـتِـهـادَ حَـقـهُ ، ثــمَّ أخـطـأ بَـعْــدَ ذلـك فـهــوَ الـمُـسْـتـحِـقّ لـلـثـواب لا الـعِـقـاب ، ولا يُـمْـكِـنُ أن يَـنـالـهُ الـوَعـيـدُ بـحـالٍ • هــذهِ الحـكـومَـة الـسّـعـوديـة ما تـرَكـتْ بـابـاً مـن أبـواب الـكـفـرِ ، وطـريـقـاً مـن طـرُقِ الـرِّدّةِ إلّا وَلـجَـتْ فـيـهِ فـاسْـتـكـثـرتْ مِـنهُ ، ووالـلهِ لـقـد أتـعَـبَـتِ الـمُـرَقـعـيـن لـها والـمُـدافـعِــيــن عـنـهـا • لا يُـمـكـن أن يـكــون الأمْــن فـي بـلــدٍ لا يُـحْـكــمُ فـيـهـا بـشـرْعِ الـلهِ أبـداً • لا يُـشْـتـرَط لـصِـحَّـةِ جـهـادِ الـدَّفـعِ اتـحـادُ الـرَّايـةِ ، ولـمْ يَـقـلْ بـذلـك أحَــدٌ ، بـلْ لــوْ لــمْ يَـكــن إلّا أن يُـقـا تِــلَ كــل رَجُـلٍ وَحـدهُ ، لـكـان واجـبـاً عـلـيـهِ الـقِـتـالُ وَحـدهُ ، ولـكـن تـوحـيـدَ الـرّايـةِ واجـبٌ عـلى الـمُـسْـلِـمـيـن هـنالـك مـا اسْـتـطـاعــوا • الـكـافــرُ يـجــوزُ ابـتــداؤهُ بـالـقِــتـالِ فــضْــلاً عــن دَفــعِــهِ إذا صـالَ . 72 ص
خلاصة كتاب : هشيم التراجعات للرشيد .. مع عشرة كتب أخرى (تحميل) |
اكتب تعليقك هنا